ذو الوجهين وذو اللسانين

في مجتمعاتنا المختلفة تتعدد الشخصيات وتتباين الطباع والسلوكيات بين الأفراد، ومن أكثر الشخصيات التي تثير الاستياء وتسبب اضطرابًا في العلاقات الاجتماعية هي شخصية “ذو الوجهين” أو “ذو اللسانين”. هذه الشخصية التي تتقمص أكثر من دور وتُظهر وجوهًا متعددة بحسب المواقف والمصالح، تعد من أكثر الشخصيات خطرًا على التماسك الاجتماعي لأنها تهدم الثقة وتزرع الشكوك بين الناس.

شخصية ذو الوجهين وذو اللسانين ليست مجرد سلوك عابر، بل هي نمط متأصل يعكس ازدواجية في المبادئ وتناقضًا في التعامل مع الآخرين. من يتصف بهذا الطبع يتحدث أمام كل طرف بما يرضيه، ويُظهر المحبة والود لكل من يقابله، لكنه في الوقت ذاته يحمل نقيض ما يقوله في صدره، وقد يتحدث بسوء عن نفس الشخص في غيابه. هذه الشخصية تنشر الفتنة، وتغذي الأحقاد، وتخلق بيئة مليئة بالشك والتنافر.

تعريف ذو الوجهين وذو اللسانين

ذو الوجهين هو الشخص الذي يظهر بوجه معين أمام مجموعة من الناس ثم يظهر بوجه مخالف تمامًا أمام مجموعة أخرى، فيسلك طريق النفاق الاجتماعي والتلون النفسي لإرضاء جميع الأطراف بينما يحمل نوايا خفية قد تكون سلبية أو انتهازية. أما ذو اللسانين فهو الشخص الذي يستخدم أساليب متناقضة في الحديث مع نفس الأشخاص أو مع جماعات مختلفة، حيث يقول كلامًا في موقف ثم ينقضه في موقف آخر بحسب ما يحقق مصلحته.

هذه الشخصيات تشترك في جوهرها في أنها تخالف مبدأ الثبات على المواقف والصدق في التعامل، فهي تنتهج التلون والازدواجية كوسيلة لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المبادئ والقيم والأمانة الاجتماعية.

السمات النفسية لشخصية ذو الوجهين وذو اللسانين

يتسم ذو الوجهين وذو اللسانين بعدة سمات نفسية وسلوكية واضحة من بينها:

1. النفاق الاجتماعي: يسعى إلى التكيف مع كل بيئة حسب متطلباتها، ولو على حساب الحقيقة والأمانة.

2. الانتهازية: يستغل المواقف لتحقيق مصالحه الخاصة بغض النظر عن الأضرار التي قد يتسبب بها للآخرين.

3. ضعف المبادئ: يتنازل بسهولة عن قناعاته المعلنة ويبدل مواقفه باستمرار لتحقيق ما يريد.

4. القلق النفسي: يعيش غالبًا في حالة قلق مستمر خوفًا من انكشاف أمره وافتضاح تناقضاته أمام الآخرين.

5. التلاعب بالعواطف: بارع في استخدام الكلمات والتصرفات التي توهم الآخرين بصدق نواياه رغم أنه يخفي أهدافًا مغايرة.

6. عدم الاستقرار الاجتماعي: يعاني من علاقات متوترة وغير مستقرة لأنه يفقد ثقة من يتعاملون معه بمجرد اكتشاف حقيقته.

دوافع التصرف بوجهين ولسانين

تتعدد الأسباب التي تدفع بعض الأشخاص إلى تبني هذا السلوك المزدوج. ومن أبرز هذه الدوافع:

1. الخوف من المواجهة

بعض الأشخاص يتجنبون المواجهة الصريحة ويلجؤون إلى الازدواجية لتجنب الخلافات أو لتحاشي إظهار مواقفهم الحقيقية التي قد تسبب لهم المتاعب. فيتصرفون بوجهين هربًا من المواقف التي تتطلب منهم اتخاذ قرارات صريحة أو الدفاع عن آرائهم الحقيقية.

2. ضعف الثقة بالنفس

الشخصيات التي تعاني من انعدام الثقة بالنفس قد تشعر أنها بحاجة دائمة لنيل رضا الآخرين لتأكيد قيمتها الاجتماعية، لذلك تسعى إلى إرضاء الجميع حتى لو كان ذلك يتطلب الكذب أو إظهار مواقف متناقضة.

3. المصلحة الشخصية

هناك من يتبنى هذا السلوك بهدف تحقيق مكاسب شخصية سواء كانت مادية أو معنوية، فيتقمص كل الأدوار الممكنة للوصول إلى مبتغاه حتى لو كان ذلك عبر الخداع والتلون.

4. التنشئة الاجتماعية الخاطئة

قد ينشأ بعض الأفراد في بيئات تُشجع على المراوغة والالتفاف وتعتبر أن الذكاء يكمن في القدرة على التلون والتكيف مع كل المواقف لتحقيق مكاسب فورية.

5. الضغوط الاجتماعية

في بعض المجتمعات التي لا تتقبل الرأي المختلف أو التي تحاصر الشخصيات المستقلة، يلجأ البعض إلى ارتداء أكثر من قناع ليحظوا بالقبول الاجتماعي أو لتجنب العقاب الاجتماعي.

الأضرار الاجتماعية لشخصية ذو الوجهين

شخصية ذو الوجهين وذو اللسانين تسبب أضرارًا كبيرة للمجتمع من بينها:

1. هدم الثقة بين الأفراد: عندما يُكتشف الشخص ذو الوجهين، يتولد انعدام ثقة عام يؤدي إلى تفكك العلاقات الاجتماعية.

2. نشر الفتنة والشائعات: الشخص ذو الوجهين قد يتسبب في نشوء صراعات بين الأطراف المختلفة من خلال نقل الكلام وتحريف المواقف.

3. تدمير القيم الأخلاقية: سلوك ذو الوجهين ينشر ثقافة النفاق والكذب ويُضعف الالتزام بالقيم الصادقة التي تحفظ تماسك المجتمعات.

4. إعاقة العمل الجماعي: في بيئات العمل، وجود شخصيات مزدوجة يسبب احتقانًا في العلاقات بين الزملاء ويؤدي إلى ضعف الأداء الجماعي بسبب فقدان الثقة.

5. تعزيز الأنانية: السلوك الازدواجي يعزز الأنانية ويجعل الشخص يسعى فقط لمصلحته دون النظر إلى مصالح الآخرين أو القيم المشتركة.

الموقف الديني من ذو الوجهين وذو اللسانين

الشريعة الإسلامية جاءت بتحذيرات شديدة ضد النفاق وذمّت بشدة شخصية ذو الوجهين وذو اللسانين. فقد ورد في الحديث الشريف:

“إن شر الناس ذو الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه” [رواه البخاري ومسلم]، ويُعتبر هذا التوصيف من أشد الأوصاف السلبية التي تُطلق على إنسان.

النفاق الاجتماعي يُعد من الكبائر التي تُفسد العلاقات وتهدم القيم. وذو الوجهين يخرج عن نطاق الصفات المحمودة إلى الصفات المذمومة التي يجب على المسلم أن يتجنبها وأن يحذر التعامل معها.

كذلك فإن الصدق والثبات على المبادئ من أعظم القيم التي حث عليها الإسلام، فهي أساس بناء شخصية متزنة موثوقة عند الناس وعند الله.

علاج ذو الوجهين وذو اللسانين

التعامل مع الشخصية ذات الوجهين يتطلب وعيًا نفسيًا واجتماعيًا، كما يتطلب العمل على علاج هذه السلوكيات التي قد تتواجد عند البعض إما بشكل مقصود أو نتيجة لظروف معينة.

1. الوعي الذاتي

الشخص الذي يعاني من هذا السلوك بحاجة إلى وقفة صادقة مع نفسه لتقييم أفعاله والتفكير في مدى تأثيرها على الآخرين وعلى نفسه في المدى البعيد.

2. تعزيز القيم الدينية والأخلاقية

الرجوع إلى المبادئ الدينية الصادقة التي تحث على الصدق، وتجنب النفاق والكذب يعين الشخص على التخلص من هذه العادة.

3. التدريب على قول الحقيقة

التدريب المستمر على قول الحقيقة في المواقف البسيطة يساعد الشخص تدريجيًا على بناء شخصية قوية صادقة يمكنها مواجهة المواقف الأصعب.

4. مواجهة المخاوف

التخلص من الخوف المبالغ فيه من فقدان العلاقات أو التعرض للانتقاد، والتصالح مع فكرة أن الصدق قد لا يرضي الجميع، لكنه يمنح الشخص راحة نفسية وثقة بالنفس.

5. إعادة بناء الثقة الاجتماعية

من خلال تبني سلوكيات مستقرة وصادقة، يمكن للشخص أن يستعيد ثقة الآخرين تدريجيًا ويعيد بناء شبكة علاقاته على أسس صحيحة.

6. الاستعانة بالمرشدين التربويين

في بعض الحالات قد يحتاج الشخص إلى التوجيه من مختصين نفسيين أو مرشدين تربويين يساعدونه على فهم ذاته وتصحيح مساره السلوكي.

مقارنة بين الشخصية الصادقة وذو الوجهين

الأثر النفسي على ذو الوجهين

ذو الوجهين لا يعيش حالة استقرار نفسي حقيقية، فهو دائم القلق من أن تنكشف حقيقته أمام الآخرين، كما أنه يعاني من صراعات داخلية بين رغبته في تحقيق مصالحه الخاصة وبين الشعور بالذنب تجاه تصرفاته المتناقضة. هذا القلق المستمر قد يتطور إلى اضطرابات نفسية مثل التوتر المزمن واضطرابات الهوية وضعف احترام الذات.

وفي كثير من الحالات، يفقد ذو الوجهين العلاقات التي بناها على الخداع، وقد يجد نفسه معزولًا اجتماعيًا عند انكشاف أمره. فالمجتمع لا يرحم من يخون الثقة، والناس بطبيعتهم ينفرون من الشخصيات المتلونة التي يصعب توقع تصرفاتها.

خطورة انتشار هذه الشخصية في المجتمع

عندما تكثر الشخصيات التي تتسم بازدواجية الوجه واللسان في المجتمع، يصبح النفاق هو القاعدة والصدق هو الاستثناء. هذا الوضع يؤدي إلى تآكل الروابط الاجتماعية وضعف الشعور بالانتماء، لأن الناس سيشعرون أنهم محاطون بشبكة من المصالح المتبادلة لا تستند إلى قيم راسخة.

تتحول بذلك العلاقات الاجتماعية إلى ساحة منافسة غير شريفة يغلب عليها الحذر والريبة، وتضعف روح التعاون والعمل الجماعي، وينتشر الشعور بالاغتراب حتى داخل المحيط الواحد.

كيفية الوقاية من التعامل مع ذو الوجهين

• عدم الاندفاع في بناء علاقات جديدة: يجب إعطاء الوقت الكافي لاكتشاف حقيقة الأشخاص قبل منحهم الثقة الكاملة.

• تحري المصداقية: التأكد من صحة الأقوال المنقولة وتقييم سلوكيات الأشخاص عبر مواقف متعددة وليس من موقف واحد.

• وضع حدود واضحة: التعامل مع الشخصيات المشبوهة بحذر مع وضع حدود واضحة تمنع استغلالها للعلاقة.

• التواصل المباشر مع الأطراف الأخرى: في حال الشك في وجود نقل كلام أو تحريف مواقف، يجب التواصل مع الأطراف الأخرى للتأكد من الحقيقة.

• تعزيز القيم الصادقة في البيئة المحيطة: العمل على نشر ثقافة الصراحة والصدق داخل المؤسسات والمدارس والأسر للحد من انتشار هذا السلوك.

خلاصة

ذو الوجهين وذو اللسانين شخصيات تحمل في داخلها خطرًا على النسيج الاجتماعي وعلى العلاقات بين الأفراد. انتشار مثل هذه الشخصيات يهدد الثقة المتبادلة ويغذي بيئة مليئة بالتوتر والمصالح الضيقة. من هنا تأتي أهمية التصدي لهذا السلوك بالوعي الذاتي والتربية الأخلاقية والتمسك بالقيم الصادقة التي تعزز الثبات على المواقف وتبني علاقات صحية قائمة على الشفافية.

المصادر

• كتاب “إحياء علوم الدين” للإمام الغزالي

• صحيح البخاري – باب ذو الوجهين